الشيخ صالح الجعفري
وجهوده في الحياة الروحية بقلم د/ محمد عبد الدايم الجندي الإسنوي
الحمد لله الذى فتح بمفاتح الغيوب أقفال القلوب، وعجزت العقول عن إدراك كنه ذاته، وتاهت فهوم الفحول فى أنوار معرفة صفاته، أحمده حمد من إليه يئوب، ومن ذنبه يتوب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الواحد بألوهيته، الأزلى بأوليته، الأبدى بآخريته، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله شهادة تقطع بها الظنون والأوهام، وتأنس بها أرواحنا بمحبة سيد الأنام وعلى آله، وأصحابه الأئمة الهداة الأعلام، الذين بذلوا جهدهم فى إحياء ملته واتباع سنته، واقتفاء أثاره وسيرته، فقلدهم الله تعالى لطائف مننه، وفتح لهم من مكنون علمه موائد نعمه، ونور بواطنهم بلآلئ شيمه >
إنهم يتفقهون فى الدين ليحرضوا المؤمنين على ما ينفع فى الآخرة ودرجاتها العلية، ويكشفوا عن وجه الدنيا ما يوارى مطالبها الدنية، وليدعوا إلى الروحية وأنوارها السنية، ويلتقطوا من موائد فوائد التأدب بالآداب النبوية .
وبذلك صاروا أعلاماً، يجولون فى كل ميدان عبر سلسلة يتلألأ بها عقد التاريخ الإسلامى الطويل .
لذا كان حرياً بمثلى كطالب للمعرفة، أن أدرس السيرة الذاتية لهؤلاء الأعلام، وأن أتعرف على معالم حياتهم العلمية والعملية، على قدر ما يسمج به فكرى ويبلغ إليه قدرى .
والشيخ " صالح الجعفرى " أحد هؤلاء الأعلام، كان يدعو إلى الله على بصيرة، فكان له من الشهرة فى قوته ما استفاض به حديث الكبير والصغير، والعام والخاص، إنه بلغ فى التربية الروحية مبلغاً عظيماً لا يبارى، وسما فى مجال الدعوة إلى الله تعالى حتى عانق القلوب بدعوته، واستنبه الهمم لهمته، ما دعانى إلى الخوض فى معامع كلامه لأستلقط الدرر المخزونة منه، فى دراسة تفصيلية لرحلة حياته وتكوينه، ولمرحلة توجيهه لتلاميذه وتكوينهم علمياً وروحياً، حتى كوَّن فيهم روح المجاهدة لأهواء النفس، وارتفع بهم عن التدنى لالتقاط فتات المادية المتساقطة من موائد الشهوات ومن كلامه مثلا في مراتب النفس حسب ترقيها وتدنيها :
( وقسَّم الأنفس أهلُ البر
لوامة ملهمة من ربى
راضية مرضية كاملة
لسبعةٍ أمارة بالشر
والمطمئنة التى فى القرب
فهذه عدتهن حاصلة ) ( )
ومن كلامه :
( إحذر هواك فإنه يهوى بمن
إن القوى هو الذى غلب الهوى
كم من مريد قد أضرَّ به الهوى
ملَكَ الهوى أعناقهم فى الهاوية
ليس الذى غلَبَ الأسود الضارية
لو كان يعقل ما تمنى الفانية ) ( )
وقد عاش فضيلة الشيخ " صالح الجعفرى " فى الفترة الممتدة من أوائل القرن الرابع عشر الهجرى ، وأوائل القرن العشرين الميلادى إلى آخر القرن الرابع عشر الهجرى وأواخر العشرين الميلادى ، إذ كان مولده عام ثمان وعشرين بعد الثلاثمائة وألف من الهجرة ( سنة 1328هـ ) ( ) الموافق لعام عشرة وتسعمائة وألف من الميلاد ( سنة 1910م ) ( ) ، وكانـت وفاته عام تسـع وتسعين بعـد الثلاثمائـة وألف مـن الهجـرة ( 1399هـ ) الموافق لعام تسع وسبعين وتسعمائة وألف من الميلاد ( سنة 1979م) ( ) أى أنه ولد فى عهد الخديوى " عباس الثانى " ( ) حاكم مصر فى تلك الآونة .
وقد لقب الشيخ صالح بـ "الجعفري" لنسبته إلى الأشراف الجعافرة نسبا ، وليس نسبة إلى الشيعة الجعفرية ، فقد هاجم كل مارق ومبتدع ، وكان يقول لتلاميذه ( تجمعنا الطاعة وتفرقنا المعصية ، وكتاب الله وسنة نبيه هي الفصل والحكم ) ، وإن بانت على الملامح التربوية للشيخ بعض الجوانب التصوفية ، وذلك ما دفعني إلى استقراء فكره وعقيدته وعرضهما على ميزان الإسلام فهو الفصل .
وبما أن قسم الأديان يدرس المذاهب والعقائد ، كان من ضمن مسالكه البحثية أن يدرس فكر الأعلام _وأي فكر _ وعقيدتهم حتى يحكم عليهم من خلال ميزان الإسلام الذي لا يجور ولا يحيد .
والشيخ صالح الجعفري كان عالما أزهريا ، ثابر وجالد حتى نال شهادة العالمية الأهلية، وشهادة أخرى مماثلة من كلية الشريعة الإسلامية مع إجازة التدريس وذلك سنة 1952م ، وكان قد التحق أيضـاً بكلية أصول الدين لمدة سنتين درس فيهما علوماً لم يكن قد درسها من قبل ولم تكن موافقة لطبعه ومواهبه كما تحدث الشيخ عن نفسه، ولم يكن الشيخ يفكر فى منصب، حتى ساقه الله عفواً دون سعى، وكان الله قد حقق له رغبته حين هيأ له أن يكون مدرساً بالجامع الأزهر للعامة فأصبح كما يبتغى داعــية هاتفاً بشريعة الإسلام، وشارحاً مجيداً لأخلاق السلف، وقدوة ممتازة فى السلوك الإسلامى النبيل، ولم يقتصر الإمـام الجعفرى " " على واجبات وظيفته بل قام بالتدريس والوعظ فى جنبات الأزهر، وجذب إليه القلوب بما أفاض الله ـ تعالى ـ عليه من العلم النافع، والموعظة المخلصة الصادقة فأقبل عليه طلاب العلم من داخل الأزهر وخارجه ، وقد عين شيخا وإماما للجامع الأزهر ، وذلك حين رأت مشيخة الأزهر الجليلة بقيادة الشيخ الإمام مصطفى عبد الرازق ، وبقـرار مباشر من فضيلته لما رآه من نبوغ واضح من فحوى خطابه وكلامه.
وقد توفي الشيخ صالح مساء يوم الاثنين ـ الثامن عشر من شهر جمادى الأولى ( سنة 1399هـ ) سنة تسع وتسعين وثلاثمائة وألف من الهجرة الموافق لعام ( 1979م ) تسع وسبعين وتسعمائة وألف ميلادية، ودفن بالدراسة بالقاهرة.
المهم أنني هممت بدراسة فكر الشيخ حتى يفهم عوام الصـوفية وجهلائهم معنى الشخصية الزاهده الحقيقة بعيدا عن الخرافة والبدعة ، وقد درست في هذه الـرسالة كثيرا من القـضايا الصــوفية وناقشتها بالكتاب والسنة والحجة والدليل ، وهذه الدراسة في صلب العـقيدة ، لأنها ناقشت قضايا عقيدية مهمة يسلكها الصوفية وهذه مهمة وحدة العقيدة والمذاهب بقسمنا ، حيث الدراسة والمناقشة المتزنة التي تفضي إلى الصواب كنتيجة أمينة للمسألة العلمية . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين